نكران الجميل: سيرة الظلّ الذي يلتهم نور الروح

 

نكران الجميل: سيرة الظلّ الذي يلتهم نور الروح

بقلم محسن عباس 


في تاريخ الإنسان الطويل، لم يخلُ قلب من جرح، لكن هناك جرحًا مخصوصًا، خفيًا، لا يُرى على الجلد ولا يُسمع صدى صرخته في الهواء…
جرحٌ يسكن في موضعٍ دقيق من النفس، حيث تتقاطع المودة بالثقة، وحيث تقيم الذكريات في طبقاتها الأكثر حساسية: إنه نكران الجميل.

ليس الجحود حدثًا بسيطًا، ولا انفعالًا عابرًا، ولا خطأ يمكن إخفاؤه بكلمة اعتذار؛
إنه فعلٌ يغيّر هندسة الروح، يعيد ترتيب الأشياء في الداخل، فيجعل الأبواب التي كانت مفتوحة تُغلق بهدوء، ويجعل القلوب التي كانت سخية تتعلّم الاقتصاد في نبضها.

الجحود ليس إنكار المعروف فقط…
بل هو انكسار معنى الإنسان في الإنسان.


1. الجحود كصوت داخلي: حين يتكلم الفراغ

كل فعل جحود يبدأ من الداخل، كهمسة صغيرة تقول لصاحبها:
«لا أحد يستحقّ أن تعترف له بشيء.»

هذه الهمسة، مهما بدت ضعيفة، تحمل قوة هدّامة.
فهي لا ترفض الاعتراف بالفضل فقط، بل ترفض الاعتراف بالارتباط.
وكأن منكر الجميل يريد أن يعلن:
«أنا كائن مكتمل بذاتي، لم أحتج أحدًا، ولن أحتاج!»

إنه إعلان استقلال زائف؛ استقلال موهوم يختبئ وراءه خوف شديد من الضعف.
إذ إن الاعتراف بالجميل لا يكشف فقط عن فضل الآخرين، بل يكشف عن هشاشتنا نحن، عن اللحظة التي كنا فيها محتاجين، ضعفاء، معتمدين على يد غيرنا كي لا نسقط.

وهذا الاعتراف، بالنسبة للبعض، أشبه بخلع درعٍ صدئ ظلّوا يرتدونه سنوات.


2. جذور الجحود: حقول مظلمة تنمو في داخلنا

ينمو الجحود في تربة ليست بريئة:
تربة من الأوهام، ومن تضخم الأنا، ومن الخوف، ومن الجهل بقيمة الأشياء.
لكن جذوره أكثر تعقيدًا مما نظن.

أ. الشعور بالاستحقاق

هناك من يرى أن الخير الذي جاءه كان واجبًا لا فضلًا.
وكأن العالم كله مدين له، لا هو مدين لأحد.

ب. حسد يتخفّى في هيئة عقلانية

قد يحسد منكر الجميل مُحسِنه…
يحسده على قوته، على عطاءه، على قدرته على التأثير.
فيُنكر الفضل كي ينقذ كبرياءه من الانهيار.

ج. ضعف تقدير الذات

بعض القلوب لا تستطيع تحمل فكرة أنها أنقذت يومًا بيدٍ غير يدها.
فتنكر الجميل لأنها لا تحتمل مواجهة المرآة.

د. تغير الزمن والمصالح

كم من معروفٍ دفنته السنوات، لا لأنه فقد قيمته، بل لأن القلوب تغيّرت…
وصارت الأولويات الأخرى أعلى صوتًا.

هـ. الشخصية النرجسية

النرجسي يرى العالم يدور حوله.
يعترف فقط بما يمنحه حضورًا، وينكر كل ما يشعره بالاعتماد على الآخر.


3. أثر نكران الجميل: تلك الكسور التي لا تُرى

أ. على من قدّم المعروف

الألم الأكبر ليس أن يُنسى المعروف،
بل أن يتحوّل إلى حكاية مشوهة
أن يجد الشخص نفسه متهمًا بينما كان مُنقذًا،
أو متطفلًا بينما كان سندًا.

الجحود يجعل القلب يتعلم الدرس الأصعب:
أن العطاء بلا حكمة قد يصبح لعنة،
وأن الناس لا يتشابهون،
وأن بعض النعم لا ينبغي أن تُمنح،
وأن بعض القلوب يجب ألا تُختبر.

ب. على منكر الجميل

من يظن أنه نجا من الاعتراف، لا يعرف أنه خسر…
خسر شرف الامتنان.
خسر احترام نفسه.
خسر صورة كان يمكن أن تكون أنقى.
وخسر فرصة بناء علاقة كان يمكن أن تصبح عمودًا في مستقبله.

الجحود يشبه السير على أرض لزجة؛
كلما مشى عليها الإنسان أكثر، ابتلعته.

ج. على المجتمع

مجتمع لا يعترف بالجميل مجتمع مهدد بالانهيار البطيء:
لا أحد يساعد،
لا أحد يثق،
لا أحد يغامر بالعطاء.

الجحود يبني حول كل فرد جدارًا صغيرًا…
ومجموع الجدران يصنع جيتو إنسانيًا يفصل البشر عن بعضهم، حتى لو عاشوا في الشارع نفسه.


4. هل الجحود دائمًا خطيئة؟

في بعض الأحيان، يخطئ الناس من فرط الصمت، لا من فرط القسوة.
قد لا يعرف بعضهم كيف يعبر،
وقد يهرب آخرون من الشكر لأنه يفتح جرحًا قديمًا،
وقد يُخفي الامتنان نفسه لأنه يذكّرهم بضعفهم.
ولكن، مهما كانت الأسباب، يبقى الجحود فعلًا يُترك أثره…
أثرًا يشبه خدشًا في قلب العلاقة، لا يشفى بسهولة.


5. كيف نحمي أنفسنا من جرح الجحود؟

أ. لا ترفع سقف التوقعات

كلما ارتفعت توقعاتك، كان سقوطك أقسى.

ب. اعطِ لأن قلبك اختار العطاء، لا لأن أحدًا يستحقه

فالاستحقاق كلمة يمكن أن تمحوها لحظة واحدة.

ج. ضع حدودًا واضحة

لأن العطاء بلا حدود يرهق الروح ويستنزف كرامتها.

د. سامح… إن استطعت

لا من أجلهم، بل من أجل أن يبقى قلبك قادرًا على الحب.

هـ. تذكر: المعروف لا يضيع

حتى لو ضاع في قلوب البشر، فإنه يُكتب في مكان آخر…
في سجلّ خفي لا يراه إلا من يعرف قيمة النور.


خاتمة: الامتنان… الصوت الذي يعيد تشكيل العالم

في النهاية، ليس الامتنان كلمة ولا سلوكًا اجتماعيًا؛
إنه وعي
وعي بأننا لسنا مكتفين بذواتنا،
وأننا لم ننهض وحدنا،
وأن ما نحن عليه اليوم كان نتاج أيادٍ كثيرة لم نرَ بعضها ولم نعرف بعضها.

الامتنان هو اعتراف بأن الإنسان لا يكتمل إلا بالآخر.
أما الجحود، فهو محاولة يائسة لصنع إنسان منغلق، مكتفٍ، منعزل،
إنسان لا يملك شجاعة الاعتراف بأنه احتاج — يومًا — إلى من أنقذه من السقوط.

ولهذا، سيبقى الامتنان نورًا…
ويبقى الجحود ظلًا يتلاشى حين تظهر حقيقة الإنسان.

التعليقات
0 التعليقات

ليست هناك تعليقات :

إرسال تعليق

مولانا تصميم ahmad fathi © 2014

يتم التشغيل بواسطة Blogger.